ثقافة

النقد البيئي وتأثر الشعراء ببيئاتهم

النقد البيئي
وتأثر الشعراء ببيئاتهم

بقلم د. أمل درويش

حالة من التوحد تلك التي تنتاب المبدع؛ فينكفئ على أوراقه معتكفا في كهفه ملبيّا لذاك الصوت الخافت الهامس من أعماقه، وبازدياد صخب الهمس، وضجيج تردداته التي تغمر روح المبدع فلا يملك سوى التعبير عنها ليفيض سيل الإبداع على الأوراق..
حينها لا يكترث المبدع لرؤى النقد وتأويلاته وما قد يصل إلى ذهن المتلقي، كل ما يريده أن يتخلص من هذا الضجيج المشتعل بداخله..
وبعد أن تهدأ ثورة الحروف، يعود المبدع إلى نهر الكلمات المنساب، يُنقحه ويُهذب وُديانه حتى يستسيغها القارئ وينهل منها.
ولأن المبدع ابن بيئته؛ فقد كان للبيئة والمجتمع عظيم الأثر على ما ينتجه المبدع، وفقا لتأثره بهذه البيئة وانتمائه لهذا المكان وتعبيره عمن يعيشون فيه.
النقد البيئي:
مصطلح نشأ في أواخر سبعينيات القرن الماضي، بعد تعرض العالم للعديد من الكوارث والحروب، وانفجار هيروشيما الذي ترك آثارا خطيرة على البيئة في شرق الكرة الأرضية.
ومن هنا ظهر تيار أدبي يهتم بالبيئة والجمال ويدعو لمحاولة إصلاح العالم، ونشر الوعي البيئي.
وبالتبعية فقد اكتشف النقاد أهمية دراسة تأثير الزمان والمكان والبيئة على النص الأدبي، كذلك الأصل والطبقة والجنس..
ومن هنا تم جمع كل ذلك تحت عنوان عريض وهو: الدراسات الثقافية الخضراء.. الذي ربط البيئة باللون الأخضر.

أثر البيئة على الشعر:
وكان للبيئة أثرها الواضح في الشعر منذ القدم، فنجد الشعر العربي في الجزيرة العربية ارتبط بالصحراء، والخيام والحروب بين القبائل والمفاخرة بانتصاراتهم وأنسابهم.. وهذا يظهر في أشعار النابغة الذبياني أحد أشهر ثلاثة شعراء في العصر القديم:
وَدّع أمامة، والتوديع تعذير، وما وداعُك مَن قَفّت به العير
وما رأيتكَ إلا نظرةً عَرضت، يوم النّمارة، والمأمور مأمور
إن القفول إلى حيٍّ، وإن بعدوا، أمسوا، ودونهم ثهلان فالنّير
هل تُبلّغنيهم حرفٌ مُصرّمةٌ، أُجدُ الفَقار، وإدلاجٌ وتهجير
فنجد تأثر الشاعر بالصحراء فيذكر أسماء الجبال: ثهلان ، والنير.. أما النمارة فهو اسم بلد عند العرب.
كذلك نجد الحيوانات التي يعرفها أهل الصحراء وهي الجمال: فيذكرها مرة العير، ومرة “حرف” وهي الناقة الضامرة؛ حيث يصفها بأنها مُصرمة بمعنى جافة لا لبن فيها، وهي تعبيرات لا يعرفها سوى أهل البادية.

بينما انتهج شعراء الأندلس نهجا آخر يتسق مع البيئة التي عاشوا فيها من جمال الطبيعة وحياة الترف والقصور البديعة التي عاشوا فيها.
فنجد المعتمد بن عباد “ثالث ملوك بني عبّاد في الأندلس” يدعو أصدقاءه لزيارة قصره في قرطبة فيقول:
حسدَ القصر فيكم الزهراء
ولعمري وعمركم ما أساء
قد طلعتم به شموسا صباحا
فاطلُعُوا عندنا بدورًا مساءً

وللطبيعة رأي آخر في أشعار جبران خليل جبران؛ فروح الفنان وريشة الرسام هي الأقدر على التعبير عن وصف الجمال، وتطويعه في الوصف والرمز؛ فيقول:
على هذه الشطآن أسعى إلى الأبد
بين الرمل مسعاي وبين الزَبد
سوف يطغى المد على آثار قدميّ فيمحو ما وجد
ونطوّح الريح بعيدا بالزبد
أما البحر وأما الشاطئ، فباقيان إلى الأبد..

وننتقل إلى مصر؛ فمن منا لا يتذكر كلمات الشاعر حافظ إبراهيم في وصف اللغة العربية التي تأثرت بالبيئة واختارت مفاتنها رموزا فيقول:
أنا البحر في أحشائه الدُرُّ كامنٌ
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني
ومنكم وإن عَزَّ الدواء أُساتي

ثم ننتقل إلى الجنوب حيث يرتبط الشعراء بنهر النيل فيكون البطل في أشعارهم أو شاهدا على قصص العشاق، وربما رمزا للجمال والوطن في بعض الأحيان، فنجد الشاعر عبد الستار سليم يقول في قصيدة “وسلمى.. حين تسألني”:
أُحدّث عنكِ سُمّاري
وأكتب فيكِ أشعاري
وبين جوانحي قلبٌ
يهيم بنيلك الجــــاري
وشوقٌ ليس مثل الشوق
يعصف بي كإعصار
فأصنع منكِ أهرامـــا
تصاحبني.. بأسفاري
وأحمل منكِ مئذنــــة
ونقشا فوق أحجــاري

أما الشاعر أمل دنقل فقد كتب قصيدة بعنوان زهور يقول فيها:
زهور وسلال من الورد
ألمحها بين إغفاءة وإفاقة
وعلى كل باقة
اسم حاملها في بطاقة
تتحدث لي الزهرات الجميلة
أن أَعيُنَها اتسعت دهشة
لحظة القطف
لحظة القصف
لحظة إعدامها في الخميلة
تتحدث لي..
وثمة فارق كبير بين من يصف البيئة أو يتأثر بها، ومن يملك الوعي البيئي، ويقدم التوجيه والإرشاد عبر قصائده، وهو ما راعاه الشاعر أمل دنقل واصفا حالة الزهور عند قطفها أو قصفها كما اختار التعبير ليبين لنا فداحة التعدي على جمال الطبيعة وتدمير البيئة.

كما يتميز شعر جنوب مصر بارتباطه بالموروث الشعبي وتنبثق منه العديد من الأشكال ومنها فن الواو والمربعات.. ثم نواصل الرحلة مع النيل إلى النوبة وملامح أخرى للشعر هناك.
ولكن النقد البيئي لم يقتصر فقط على الاهتمام بالبيئة وأثرها في الإبداع، بل شمل الأصل والجنس، فظهر لنا تمييز جديد للإبداع وهو الأدب النسوي.. سوف نتحدث عنه بشكل مفصل فيما بعد.

المصادر:
• ديوان النابغة الذبياني شرح حمدو طمّاس
• المختار من شعر شعراء الأندلس ابن الصيرفي تحقيق د. عبد الرزاق حسين
• ديوان رمل وزبد جبران خليل جبران ثروت عكاشة
• ديوان أوراق الغرفة 8 الشاعر أمل دنقل

النقد البيئي
وتأثر الشعراء ببيئاتهم
النقد البيئي
وتأثر الشعراء ببيئاتهم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى