نساء على جبهات الحياة

نساء على جبهات الحياة
بقلمي نرمين بهنسي
أيسك.. تحديات العبور بين الثقافات والقيود
في كل بقعة من هذا العالم، تولد امرأة ومعها معركة خفية. ليست معركة واحدة، بل سلسلة لا تنتهي من الصراعات اليومية، التي قد تختلف أشكالها ولغاتها وأسبابها، لكنها تشترك في عنوان واحد: أن تكوني امرأة في عالم ما زال يُعيد تعريف الإنسانية على مقاييس ذكورية.
من بين جدران البيوت القديمة في قرى الشرق، إلى ناطحات السحاب في مدن الغرب المتحضّر، تمرّ المرأة بذات السؤال: لماذا لا أُعامل كإنسان مكتمل الحقوق؟ ورغم التفاوت الثقافي الكبير بين المجتمعات، إلا أن المشهد العام يكشف أن “الأنوثة” ما زالت عبئًا يجب على المرأة إثبات جدارته، لا هبةً تُحترم ببساطة.
في الشرق… السجن الناعم
في كثير من الدول العربية والشرقية، تُختزل المرأة في أدوار محددة مسبقًا: زوجة، أم، ابنة مطيعة، أو ضحية متهمة. فهي إما ملاك منزلي بلا صوت، أو “متمردة” خارجة عن المألوف.
هنا تُقاس قيمة المرأة بدرجة تضحيتها، بصبرها على الأذى، بصمتها على الظلم، بقدرتها على التحمّل دون شكوى. فإن تكلمت، قيل إنها مسترجلة. وإن طالبت بحق، وُصمت بالوقاحة. وإن طالبت بالحب، سُخِر منها.
الضغوط الاجتماعية تفرض نفسها بقوة على المرأة، من خلال العائلة أولًا، ثم عبر المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية، التي كثيرًا ما تُعيد إنتاج الصور النمطية. فنرى الإعلام يُلمّع صورة المرأة الخاضعة، ويصوّرها على أنها المثل الأعلى.
في الغرب… الوجه الآخر من التحدي
قد يظن البعض أن المجتمعات الغربية أنصفت المرأة كليًا، ولكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. ففي الغرب، ورغم القوانين التي تكفل المساواة، لا تزال المرأة تواجه أشكالًا أخرى من الظلم المبطّن.
التمييز في الأجور، التحرش في أماكن العمل، قلة تمثيل النساء في المناصب القيادية، النظرة المزدوجة تجاه الأمهات العاملات… كلها نماذج من التحديات التي تعيشها النساء في دول تُعرّف نفسها بالحرية.
بل إن بعض النساء يشعرن أن “الحرية” أصبحت قيدًا من نوع جديد؛ فالمجتمع يطالبهن بأن يكنّ جميلات دائمًا، ناجحات دائمًا، مستقلات بلا عيب، قوية دون أن تزعج، هشة بشكلٍ فنيّ… إنها حرية مصممة في قالب.
نساء العالم الثالث… بين المطرقة والسندان
في دول العالم الثالث، تعيش المرأة بين أنظمة فاسدة وأعراف متهالكة، فتكون أول من يدفع ثمن الفقر والحروب واللجوء، دون أن يُنظر لها كضحية، بل تُحمَّل مسؤولية البقاء.
في هذه البيئات، تصبح الفتاة “حملًا زائدًا”، والمرأة الأرملة “لعنة اجتماعية”، والمطلقة “خطيئة متحركة”. فتُحرم من التعليم، وتُجبر على الزواج المبكر، وتُعرض للختان، وتُستخدم كأداة لتصفية الحسابات العائلية.
هي ليست فقط مغيّبة عن القرار، بل مغيّبة عن الحضور. وجودها مشروط دائمًا بأن يكون “مقبولًا” من الآخرين، لا كما تريد هي.
التحدي الأكبر: تحدي الوعي
رغم كل ما سبق، يبقى التحدي الحقيقي الذي تواجهه المرأة اليوم هو تحدي “الوعي”. أن تعي مكانتها، وقدرتها، واستحقاقها للحياة الكاملة. أن تفهم أنها ليست “نصفًا” ينتظر التكميل، بل إنسانة كاملة.
الوعي هو ما يجعل امرأة في قرية صغيرة ترفض الزواج القسري، ويجعل أخرى في شركة عالمية تطالب بترقية كانت تُمنح تلقائيًا لغيرها. الوعي هو ما يحرك ثورات النساء، ليس فقط في الشوارع، بل في داخل البيوت وفي دواخل العقول.
والأهم: أن يكون هذا الوعي جماعيًا، لا فرديًا. لأن المرأة وحدها لا تكفي لتغيير مجتمع، بل يحتاج الأمر إلى نساء يدعمن بعضهن، ورجال يؤمنون أن المساواة ليست “مجاملة”، بل أساس عدالة حقيقية.
الإنترنت… سلاح ذو حدين
مع انتشار التكنولوجيا، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منصّة صوت للنساء، ومتنفسًا لسرد حكايات الألم والمقاومة. ولكنها أيضًا أصبحت مسرحًا للتنمر، والابتزاز، وتشويه الصورة.
فالمرأة التي تتحدث بحرية تُهاجم، والتي تُظهر نجاحها تُحسد، والتي تُعلن رأيًا تُلغى. هذا العالم الافتراضي، رغم أهميته، كشف لنا كم من الكراهية ما زال مدفونًا في قلوب كثيرة تجاه النساء، وكم من القوانين يجب أن تتغير لتواكب الواقع الرقمي.
الخاتمة: امرأة واحدة… معركة واحدة؟
المرأة ليست كائنًا ضعيفًا يحتاج الشفقة، ولا كائنًا خارقًا لا يحق له أن يتعب. هي إنسان، بكل ما تحمله الكلمة من طيف مشاعر وتناقضات وطاقات. وتحدياتها عبر الثقافات ليست تنافسًا على مَن تتألم أكثر، بل دعوة لفهم أن المعركة واحدة، وإن اختلفت ميادينها.
فإن كنا نريد عالمًا أفضل، فعلينا أن نسأل: كيف نعطي لكل امرأة الحق في أن تختار، أن تقول “لا”، أن تحلم، أن تفشل، أن تبدأ من جديد… أن تكون كما هي، ببساطة؟
