مقالات

الليل ليس هدوءًا كما كان… إنه زمن البث المباشر من غرف أطفالكم

الليل ليس هدوءًا كما كان… إنه زمن البث المباشر من غرف أطفالكم

محمد لطيفي Mohamed LETIFI

آيسك نيوز.. لم يعد الليل في بيوتنا هدوءًا وسكونًا كما كان، بل صار ضجيجًا صامتًا ينبعث من الشاشات المضيئة خلف الأبواب المغلقة. هناك، في غرفٍ صغيرةٍ يملؤها الضوء الأزرق، يجلس أطفالٌ في أعمار الزهور، يضحكون، يرقصون، ويتحدثون إلى غرباء لا يعرفونهم، بينما آباؤهم نائمون مطمئنون أن أبناءهم “آمنون في البيت”.
لكن الحقيقة المؤلمة أن الخطر لم يعد في الخارج، بل في تلك الشاشة الصغيرة التي صارت بابًا مفتوحًا على العالم، بلا حارسٍ ولا وعي.

تطبيق “تيك توك” الذي بدأ كمنصةٍ للمرح والرقص والمقاطع القصيرة، تحوّل اليوم إلى عالمٍ موازٍ يبتلع طفولتهم ببطءٍ ناعم. هناك يجدون ما يشبه الحلم: جمهورًا يتابعهم، قلوبًا تنبض بالإعجاب، كلماتٍ تُمطرهم مديحًا أو سخريةً، فلا يعودون يعرفون أين يبدأ الواقع وأين ينتهي الافتراض.
أطفالٌ في الثانية عشرة يتحدثون بجرأةٍ لا تناسب أعمارهم، وبناتٌ صغارٌ يصوّرن أنفسهنّ كأنهن نجمات، والناس تُشاهد وتصفّق. من بعيد يبدو الأمر تافهًا، لكنه في العمق تحوّلٌ خطير في معنى الطفولة والحياء، وفي نظرة الجيل الجديد إلى ذاته وجسده وقيمه.

لقد صار التيك توك مربّيًا صامتًا حين غاب المربّون الحقيقيون.
في زمنٍ يُغري فيه الضوء أكثر من النصيحة، باتت الكاميرا أداة تربيةٍ غير معلنة، تُلقّن أبناءنا أن القبول الاجتماعي يُقاس بعدد المشاهدات، وأن الإعجاب أهم من الكرامة، وأن من لا يُشاهَد لا وجود له.
تلك المفاهيم الخطيرة تُزرع في عقولٍ صغيرة لا تملك أدوات الوعي، بينما الآباء منشغلون، والأمهات متعبات، والليل يمضي سريعًا في غفلةٍ منّا جميعًا.

ليس الغرض أن نحاكم التقنية أو نُشيطن التقدّم، فالتطبيقات في ذاتها ليست شرًا، لكن الخطر يبدأ حين تُترك بلا ضوابط، في أيديٍ صغيرةٍ لا تعرف حدودًا ولا معنى للخصوصية.
كم من طفلٍ جُرّ إلى تقليد “تحدٍّ” خطيرٍ لمجرّد أن يصبح مشهورًا ليومٍ واحد، وكم من فتاةٍ بكت لأن تعليقًا جارحًا حطّم ثقتها بنفسها.
وهكذا، يتحوّل اللهو البريء إلى عبءٍ نفسي، والشاشة إلى مرآةٍ قاسيةٍ تذكّرهم كل يوم بأنهم ليسوا “كفاية” للعالم الذي يتابعهم.

نحتاج أن نستيقظ نحن الآباء قبل أن يفوت الأوان.
أن نعود إلى غرف أبنائنا لا لنطفئ هواتفهم، بل لنضيء معهم وعيهم.
أن نتحدث، أن نصغي، أن نحضر. فالتربية اليوم لا تعني الطعام والملبس فقط، بل أن نكون بجوارهم في هذا الفضاء اللامحدود، نعلّمهم كيف يستخدمون لا كيف يُستهلكون، وكيف يختارون لا كيف يُقادون.

> “احذروا حين تضحك الشاشة… فقد تكون تضحك على من ينظر إليها.”

الليل لم يعد للنوم كما كان، بل صار امتحانًا للوعي والمسؤولية.
فبينما تنامون مطمئنين، هناك من يُعيد تشكيل فكر أبنائكم من خلف الضوء.
إنها دعوة للاستيقاظ لا من النوم، بل من الغفلة، قبل أن تُصبح الطفولة مجرّد بثٍّ مباشر لا رجعة منه.

الليل ليس هدوءًا كما كان... إنه زمن البث المباشر من غرف أطفالكم
محمد لطيفي
اظهر المزيد

نهى عراقي

نهى عراقي ليسانس أداب وكاتبة وقصصية وشاعرة وكاتبة محتوى وأبلودر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى