منوعات

حين يصبح الحياد سقوطا صامتا

حين يصبح الحياد سقوطا صامتا
خالد وليد محمود
كاتب لبناني

ثمة لحظات لا يُقاس فيها الإنسان بما يقوله، بل بما يجرؤ على عدم السكوت عنه. يخيَّل إليّ أحيانا أننا نعيش عصرا تُختبر فيه المعادن الحقيقية للإنسان، أكثر مما تُختبر فيه النظريات. عصرٌ تتقاطع فيه الأزمات الأخلاقية والإنسانية بطريقة تجعل الصمت أثقل من الكلام، والحياد أشدّ فداحة من الخطأ نفسه. لا يعود السؤال: ما موقفك؟ بل يصبح: أين تقف روحك حقا؟ وما الذي تراه فطرتك حين يتلاشى الدخان ويظهر الظلم على حقيقته العارية؟
أعترف بأنني أشعر بالاشمئزاز في كل مرة أسمع أحدهم يختبئ خلف دعوات الحياد والموضوعية والمهنية، وكأن هذه المفاهيم غطاءٌ سميك يمكن أن يحجب الحقيقة حين تكون جلية لا التباس فيها: ظالم ومظلوم، جلّاد وضحية، قوةٌ تعربد، وإنسانٌ يُسحق. حينها أفهم أن بعض الأقنعة ليست سوى محاولة للهروب من اختبارٍ أخلاقي، لا يريد صاحبه أن يخوضه، لا لأنه لا يرى الحقيقة، بل لأنه يخاف عواقب الاعتراف بها. لطالما اختلف الفلاسفة حول ما إذا كان الإنسان يولد خيّرا، أو محايدا، أو محكوما بمصلحته، لكنني أميل إلى أن هذه الأسئلة لا تُحسم في الكتب، بقدر ما تُكشف في لحظات الاختبار. هناك لحظات تضع الإنسان أمام نفسه بلا رتوش، فتظهر الحقيقة البسيطة التي قد يتعب العقل من الدوران حولها: إن الميل إلى العدالة، والتعاطف مع المظلوم، والامتعاض من الظلم، ليست زينة أخلاقية، بل حركة تلقائية للروح حين تكون حيّة.
لكنّ الحياد، هذا الكائن الرمادي يُحاول إقناعنا بأن التراوح في المنتصف فضيلة، كأن الوقوف على الهامش يُعفي الإنسان من المسؤولية. في حين أن الحياد في لحظة الظلم ليس إلا شكلا من أشكال الانسحاب؛ انسحاب من إنسانيتك، ومن قدرتك على الرؤية، ومن واجبك تجاه ذاتك قبل مجتمعك. لا يمكن لمن يرى إنسانا يُسحق ثم يقول: «أنا محايد» أن ينجو من جرحٍ ما في ضميره، حتى لو غاب ذلك الجرح عن وعيه. وهناك شيء مخيف في فكرة أن يرى الإنسان الشرّ واضحا ثم يلوذ بالصمت. هذا الصمت ليس هدوءا، أو حكمة كما يظن البعض، بل خدرٌ يصيب الروح، يطفئ فيها ما يجعلها جديرة بأن تُسمى إنسانا. أحسّ أحيانا بأن المحايدين يعيشون خارج أنفسهم، كأنهم يراقبون الحياة من وراء زجاجٍ سميك، يظنون أنه يحميهم من ضجيج الأحداث، بينما هو يحجبهم عن أبسط ما يجعل الإنسان جزءا من العالم: القدرة على الشعور. ولذلك فإن الغضب الذي ينتاب المرء حين يرى الظلم ليس ضعفا، بل دليل حياة. والدمعة التي تهبط حين يشاهد مأساة ليست مبالغة، بل علامة أصيلة على نقاء داخلي، أما تلك اللامبالاة التي يتخفّى تحتها البعض، فتبدو أقرب إلى غيبوبة أخلاقية تمتد تدريجيا حتى تفصل الإنسان عن منابعه الأولى. حين تتعرض القيم الكبرى للاهتزاز، يصبح اتخاذ موقف ضرورة روحية، قبل أن يكون ضرورة سياسية أو اجتماعية. ليس مطلوبا من الإنسان أن يشعل حربا، أو أن يتصدر المشهد، لكنّ أقل ما يمكن أن يفعله ـ وهو كثير ـ أن يعترف في داخله بأي جهة يقف، وأن لا يُجمّل الحياد بعبارات منمّقة تخدع الآخرين وتخدعه، فالمساواة بين الظالم والمظلوم ليست حسن نية، بل ظلم آخر يرتكب بصيغةٍ ناعمة.
لقد قال دانتي إن أخسّ بقاع الوجود تُخصَّص لأولئك الذين ظلوا متفرجين في القضايا الكبرى، وقال مارتن لوثر كينغ إن المشكلة ليست في الأشرار، بل في صمت الأخيار. وقال أينشتاين إن الخطر الحقيقي في أولئك الذين يعرفون الشر ثم لا يبالون. وكل هؤلاء ـ رغم اختلاف عصورهم وثقافاتهم ـ اتفقوا على حقيقة واحدة: أن الحياد ليس براءة، بل مشاركة صامتة. وأدرك أن أكثر ما يرهق الروح ليس الظلم وحده، بل أولئك الذين يشاهدونه من بعيد، ويختارون أن يكونوا بلا وزن، بلا انتماء، بلا أثر. أولئك الذين يظنون أن الصمت ينجيهم، بينما هو في الحقيقة يحملهم إلى خارج المشهد الإنساني كله.
لهذا، في الأزمنة الثقيلة، لا يطالبك أحد بأن تكون بطلا، ولا أن ترفع راية. يكفي أن تظل وفيا لفطرتك، أن تبقى قادرا على التمييز، وأن لا تمنح حيادك صفة الفضيلة. يكفي أن تعترف ـ في داخلك على الأقل ـ أن الحق لا يحتاج إلى كثير من الفلسفة حتى يُرى، ولا إلى حيادٍ طويل حتى يُضيّع. فالساكت عن الحق ليس فقط «شيطانا أخرس» كما قيل، بل هو شخصٌ خان صوته في اللحظة التي احتاجه فيها العالم. ومن يخون صوته، يخون شيئا أعمق بكثير: يخون إنسانيته.

اظهر المزيد

نهى عراقي

نهى عراقي ليسانس أداب وكاتبة وقصصية وشاعرة وكاتبة محتوى وأبلودر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى