مقالات

الحضارة الأولى على وجه الأرض… من فجر قفصة إلى حاضر الإنسان

الحضارة الأولى على وجه الأرض… من فجر قفصة إلى حاضر الإنسان

محمد لطيفي Mohamed LETIFI.

آيسك نيوز.. منذ أن أشرقت الشمس الأولى على جبين الأرض، والإنسان يسعى لترك أثرٍ في هذا العالم. لم تكن البداية ضجيج مدنٍ ولا صخب أبراجٍ، بل كانت همسًا حجريًّا في واحاتٍ صغيرة، حين بدأت اليد تصوغ الحجر، والعقل يتهجّى ملامح الفكرة الأولى.

في قلب تونس، في مدينة قفصة، بزغ فجر الحضارة الإفريقية الأولى. هناك، قبل ثمانية آلاف عام، وُلدت الحضارة القفصية، حين كان الإنسان يكتشف الزراعة، ويحوّل الصيد إلى مهارةٍ منظمة، ويصنع من أدوات الصوان أبوابًا نحو الوعي. عاش القفصيون في جماعاتٍ صغيرة، يكرّمون موتاهم بطقوسٍ بسيطة، ويُقيمون حياتهم على مزيجٍ من الحذر والإبداع. كانت قفصة أشبه بحديقةٍ أولى على حافة الصحراء، نبتت فيها جذور التفكير الجمالي، وتهيّأت الأرض لأن تُنبت لاحقًا شعوبًا ستواصل سيرة الإنسان في البحث والابتكار.

ومن رمال تونس إلى طين الرافدين، تبدأ فصولٌ جديدة من قصة الوعي البشري. هناك، بين دجلة والفرات، قامت حضارة سومر، التي تُعدّ أول المدن التي كُتبت فيها الكلمة على ألواح الطين. في سومر وُلدت الكتابة، وُدُوّنت القوانين، وارتفعت المعابد، واخترع الإنسان العجلة، ووُضعت أسس النظام الاجتماعي والتجاري. لم تكن سومر حضارةً من حجرٍ فقط، بل من فكرٍ وذاكرة، من رؤيا الإنسان حين أدرك أنه قادر على أن يصنع الزمن لا أن يخضع له.

وعلى بعد آلاف الكيلومترات شرقًا، عند ضفاف نهر السند، كانت هناك حضارة أخرى لا تقل دهشةً ولا نظامًا: حضارة هارابا ومهينجو دارو. مدنٌ مخططة بعنايةٍ هندسية، شوارع مستقيمة، منازل متراصة، أنظمة صرفٍ متطورة، وحياةٌ مدنية متكاملة تُظهر عقلًا سبق عصره. لم تُفكّ رموز كتابتهم إلى اليوم، لكن آثارهم تتحدث ببلاغةٍ عن مجتمعٍ عرف النظافة والنظام والتوازن قبل أن تُعرف هذه المفاهيم بألفياتٍ من السنين.

وفي أقصى الشمال، بين جبال القوقاز، قامت حضاراتٌ أخرى تُروى عنها الأساطير وتُؤكّدها الآثار: حضارات كورا–أراكس ومايكوب، وربما ما يُشار إليه في بعض المرويات باسم الحضارة الكرسيّة، التي يُقال إنها وُجدت منذ سبعة آلاف عام. هناك وُجدت الدلائل على استخدام المعادن، والفخار المزخرف، وأنماط السكن المنظم. لم تُكتب قصتها بعد كما كُتبت قصص سومر أو مصر، لكنها تظل صفحةً غامضة في سجلٍّ بشريٍ طويل، تشهد على أن الإنسان، أينما وُجد، كان يبحث عن المعنى والجمال في آنٍ واحد.

وفي الشرق الأقصى، على ضفاف النهر الأصفر، ظلّت الحضارة الصينية تسير بخطى ثابتة منذ أكثر من أربعة آلاف عام. من سلالة “شيا” القديمة، مرورًا بعصور “شانغ” و“هان” و“تانغ”، عرفت الصين كيف تحفظ ذاكرتها دون انقطاع. هناك حيث الفلسفة كونفوشية، والفكر منسجم مع الطبيعة، والفن امتدادٌ للروح، تجلت أطول حضارةٍ متواصلة في التاريخ، لم تنكسر ولم تذب، بل ظلت تتجدّد وتُعيد تعريف ذاتها عبر العصور.

ومن تلك البدايات الأولى، توالت الحضارات كأنها لحنٌ واحدٌ بأصواتٍ مختلفة. في وادي النيل نُحِت الحجر حتى صار معجزة، وعلى سواحل المتوسط وُلد الحرف الفينيقي، وفي بلاد الإغريق نطق الفكر فلسفة، وفي الشرق العربي لاحقًا أشرقت أنوار العلم والإيمان لتضيء عصورًا كانت تغرق في الظلام. وهكذا ظلّ النهر الإنساني يجري من منبعٍ إلى منبع، يحمل معه الفكرة، والرمز، والحلم.

من قفصة إلى سومر، ومن القوقاز إلى الصين، تمتدّ خيوط الحضارة كأن الأرض كلّها تآمرت لتصنع كائنًا اسمه الإنسان. ذلك الكائن الذي ما زال، رغم كل ما تغيّر، يبحث عن ذاته بين الحرف والحجر. فالحضارة ليست ملكًا لأمةٍ بعينها، بل هي إرثُ الأرض الذي كتبه الجميع على جدار الزمن.

وهكذا، منذ أول أداةٍ نُحِتت في صحراء تونس حتى آخر فكرةٍ تُخطّ في عصر التقنية، ظلّ الإنسان هو صانع الحكاية، وراويها، والمستمر في كتابتها ما دام في الأرض قلبٌ ينبض بالحلم.

الحضارة الأولى على وجه الأرض... من فجر قفصة إلى حاضر الإنسان
محمد لطيفي Mohamed LETIFI
اظهر المزيد

نهى عراقي

نهى عراقي ليسانس أداب وكاتبة وقصصية وشاعرة وكاتبة محتوى وأبلودر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى